في خطوة تكنولوجية مهمة تؤكد صعودها في مجال الصناعات الدفاعية والتقنية، أعلنت تركيا عن تطوير جهاز محاكاة متقدّم يحاكي طائرات "إيرباص" بدقة عالية، ليستخدم في تدريب الطيارين العسكريين والمدنيين على حد سواء. هذا الإنجاز ليس مجرد محاكاة سطحية كما هو الحال في بعض أجهزة التدريب التجارية، بل هو نظام متكامل يجمع بين الديناميكا الهوائية، والأنظمة الإلكترونية للطائرة، وبيئة القيادة الواقعية، ما يرفع من جودة التدريب ويقلل من الحاجة إلى ساعات الطيران المكلفة والخطرة. يأتي هذا التطور ضمن رؤية تركيا لتعزيز قدراتها المحلية وتقليل الاعتماد على الخارج في المجالات التقنية الحيوية.
جهاز المحاكاة.. كيف يعمل وما الذي يميّزه؟
جهاز المحاكاة الجديد يتميز بقدرته على تقليد أصغر تفاصيل تجربة الطيران الحقيقية لطائرات "Airbus"، سواء من حيث الحركة الديناميكية أو تصميم المقصورة أو ردود فعل الأنظمة. يعتمد النظام على تقنيات عرض متقدمة ثلاثية الأبعاد، تُسقط صورة محيط الطائرة بدقة عالية على شاشات بانورامية تغطي مجال رؤية الطيار بشكل كامل. كما يتفاعل الجهاز مع الطيار في الزمن الحقيقي، بحيث يشعر بالاهتزازات، والتغيرات في الضغط، وحتى المطبات الهوائية، بفضل محركات هيدروليكية دقيقة. هذه المزايا تجعل التدريب أكثر فاعلية، وتمنح الطيارين الثقة الكاملة قبل التحليق بالطائرات الحقيقية.
تعزيز استقلالية تركيا في قطاع الطيران
يمثل هذا المشروع جزءًا من استراتيجية أوسع تبنّتها أنقرة لتعزيز استقلالها التقني في المجالات الدفاعية واللوجستية. في السابق، كانت أجهزة المحاكاة المتقدمة تُستورد من دول أجنبية بتكلفة عالية، وغالبًا حسب ما اطلعت عليه " معلومة ديجيتال" ما تكون خاضعة لقيود تصديرية. الآن، بفضل هذا التطوير المحلي، تستطيع تركيا التحكم الكامل في تصميم وتشغيل وصيانة أجهزة التدريب، بل وتسعى لتصديرها مستقبلًا إلى دول صديقة أو حليفة. الجدير بالذكر أن هذا الجهاز صُمّم وفق معايير "إيرباص" العالمية، مما يعني أنه قد يُعتمد لتدريب طياري شركات الطيران التجارية، وليس فقط العسكرية.
دعم التدريب المحلي وخفض التكاليف التشغيلية
أحد الأهداف الرئيسية لتطوير هذا الجهاز هو خفض تكلفة تدريب الطيارين، التي تعد مرتفعة جدًا في ظل أسعار الوقود، وصيانة الطائرات، والمخاطر المرتبطة بالتدريب الحقيقي. باستخدام جهاز المحاكاة، يمكن إجراء مئات الساعات من التدريب دون الحاجة لإقلاع طائرة حقيقية، ما يوفر التكاليف ويزيد من مرونة البرامج التدريبية. كما أنه يتيح للمدربين التحكم الكامل في سيناريوهات الطيران، من الطقس السيئ إلى الأعطال الفنية، مما يجعل الطيار مستعدًا لكافة الحالات الطارئة قبل خوضها فعليًا في الجو.
اطلع علي ... أدوات مجانية مقابل أدوات مدفوعة أيهما أفضل؟
الجاهزية للطوارئ وتدريب على السيناريوهات المعقدة
من بين المزايا الأبرز لهذا الجهاز هي الإمكانية الفريدة لمحاكاة أوضاع الطوارئ التي يصعب أو يستحيل تنفيذها أثناء الطيران الحقيقي لأسباب تتعلق بالسلامة. يستطيع المتدرب من خلال الجهاز التعامل مع مواقف مثل فشل المحركات، أو فقدان الضغط، أو فقدان الأنظمة الكهربائية، بطريقة آمنة ومدروسة. كذلك يمكن محاكاة الهبوط الاضطراري في ظروف مناخية قاسية، أو التعامل مع خلل في الهيدروليك أو أنظمة الملاحة. هذا النوع من التدريب يعزّز مهارات الطيارين ويجعلهم أكثر استعدادًا لأي طارئ في المهام الواقعية.
شراكات صناعية وتقنية محلية لتصنيع الجهاز
نجاح هذا المشروع لم يكن وليد مجهود جهة واحدة فقط، بل هو ثمرة تعاون بين عدد من الكيانات التركية، مثل شركة "هافيلسان" المتخصصة في تقنيات المحاكاة، وشركات تصنيع إلكترونيات الطيران. كما ساهمت الجامعات ومراكز البحوث التقنية في تطوير الخوارزميات الخاصة بالتحكم في المحاكاة. هذا التعاون يعكس التحوّل الصناعي الذي تشهده تركيا، ويؤكد أن الابتكار لم يعد مقتصرًا على الاستيراد أو التصنيع البسيط، بل أصبح قائمًا على البحث والتطوير المحلي.
فرص تصديرية وسوق دولي محتمل
نظرًا لمستوى التقدم الذي يقدمه الجهاز، تتطلع تركيا إلى طرحه على الساحة الدولية، خاصة في الدول التي تمتلك أساطيل طائرات من نوع "إيرباص" ولكنها لا تملك مراكز تدريب متقدمة. يمكن للجهاز أن يشكّل حلًا اقتصاديًا وتقنيًا لتلك الدول، ما يمكّن تركيا من الدخول بقوة في سوق المحاكاة العالمي الذي يُقدّر بمليارات الدولارات سنويًا. وفي حال اعتماد هذا الجهاز من هيئات الطيران المدني الأوروبية أو الآسيوية، فقد نشهد قريبًا شركات طيران عالمية تدرب طياريها في إسطنبول أو أنقرة باستخدام هذا الابتكار التركي.