في خطوة استراتيجية تكشف عن شراسة التنافس العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي، أعلنت شركة "ميتا" الأميركية استحواذها الكامل على شركة "بلاي إيه آي" (Play AI)، وهي شركة ناشئة أسسها مهندسون مصريون متخصصون في تكنولوجيا تحويل النصوص إلى محتوى صوتي. هذا الاستحواذ، الذي لم تُكشف قيمته رسميًا، يمثل نقلة نوعية في جهود "ميتا" لتوسيع نطاق قدراتها في الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في ما يسمى بمجال "الذكاء الاصطناعي الخارق".
من القاهرة إلى كاليفورنيا: قصة صعود شركة عربية
ولدت "بلاي إيه آي" عام 2022 في كاليفورنيا، لكن جذورها تعود إلى مصر، حيث نشأ مؤسسها ومديرها التنفيذي محمود فلفل، خريج كلية الهندسة بجامعة المنصورة. فلفل بدأ حياته المهنية في شركات تكنولوجية مصرية قبل أن ينتقل للعمل في مؤسسات إقليمية مثل "دوبزيل"، ثم إلى "واتساب" ضمن شركة "ميتا"، وهو ما مهد الطريق أمامه لفهم الفجوة التقنية في مجال المحتوى الصوتي، ليؤسس شركته الخاصة.
ترك فلفل "واتساب" عام 2022 ليتفرغ لـ"بلاي إيه آي"، مدفوعًا برؤية واضحة وهي تمكين أي شخص من الاستماع إلى أي محتوى يرغب به بلغته وبجودة صوت تضاهي الأداء البشري الاحترافي، متغلبًا على العوائق الجغرافية واللغوية التي يفرضها الإنترنت والمحتوى الموجه.
تركيز على الجودة والواقعية في المحتوى الصوتي
ما ميز "بلاي إيه آي" وجعلها هدفًا مغريًا للاستحواذ هو تركيزها على تقديم أصوات توليدية تحاكي تمامًا التسجيلات الصوتية الطبيعية. لم تكن الشركة تسعى فقط إلى تحويل النصوص إلى صوت، بل إلى إنتاج أصوات واقعية من حيث النبرة، الإيقاع، والتنغيم، بحيث يصعب تمييزها عن الصوت البشري الفعلي.
وقد حققت الشركة نجاحات لافتة على هذا الصعيد، ووفقًا لموقع "كرانش بيز"، حصلت على تمويلين رئيسيين في عامي 2023 و2024 بقيمة إجمالية بلغت 23 مليون دولار، من مستثمرين وصناديق مغامرة عالمية، ما زاد من قيمتها السوقية وجعلها لاعبًا بارزًا في مشهد الذكاء الاصطناعي الصوتي.
دعم من عمالقة الصناعات التقنية
لم تقتصر إنجازات "بلاي إيه آي" على التمويل، بل وسّعت من قاعدة عملائها لتضم أسماء كبرى مثل "إيرباص"، "فورد"، و"هيونداي"، وغيرها من الشركات التي تعتمد على أنظمة الذكاء الاصطناعي في تجارب المستخدم، تعليمات القيادة، والتواصل الداخلي والخارجي.
هذه الثقة الدولية بمخرجات الشركة أكدت قدرتها على المنافسة، بل وتفوقها في مجال محدود التخصص ودقيق في تفاصيله مثل المحتوى الصوتي التوليدي.
خطوة "ميتا" نحو الذكاء الاصطناعي الخارق
وفقًا لتقرير "بلومبيرغ" الذي اطلع عليه "معلومة ديجيتال"، فإن فريق "بلاي إيه آي" بأكمله، بما في ذلك المهندسون ومصممو الخوارزميات، سينتقل للعمل تحت مظلة "ميتا" ضمن وحدة الذكاء الاصطناعي الخارق الجديدة. وسيخضع الفريق لإشراف يوهان شالكويك، الخبير البارز في مجال الذكاء الاصطناعي والذي انضم إلى "ميتا" بعد تجربة سابقة مع شركة "سيسم إيه آي" المتخصصة أيضًا في الذكاء الاصطناعي الصوتي.
الهدف المعلن من هذه الخطوة هو تطوير تقنيات ميتا الإعلانية والمحتوى المرئي، لتشمل خدمات جديدة تعتمد على الصوت التوليدي، ما يمهد لإنتاج إعلانات ومقاطع ترويجية آلية بالصوت البشري دون تدخل بشري فعلي.
استثمار ضخم في مواهب الذكاء الاصطناعي
يبدو أن "ميتا" لا تكتفي بالتكنولوجيا، بل تسعى أيضًا إلى السيطرة على العقول المبدعة التي تقف وراءها. فقد أنفقت الشركة مليارات الدولارات لاستقطاب خبراء في الذكاء الاصطناعي من شركات منافسة، ومن بينهم ألكساندر وانغ، مؤسس "سكيل إيه آي"، والتي استحوذت "ميتا" على 49% من أسهمها مقابل 14 مليار دولار.
كما عرضت "ميتا" حوافز مغرية لموظفين من "أوبن إيه آي" و"غوغل" و"أمازون"، في محاولة لبناء فريق متخصص في الذكاء الاصطناعي يوازي من حيث الإمكانات والكفاءة ما تبنيه شركات مثل "أوبن إيه آي" التي تقف وراء أنظمة مثل GPT.
بنية تحتية تتماشى مع الطموح
في إطار هذه الخطط الطموحة، تعمل "ميتا" أيضًا على إنشاء مركز بيانات ضخم بقدرة تشغيلية تتجاوز 5 غيغاواط لتلبية احتياجات الذكاء الاصطناعي المتنامية. ومع تسارع العمل، لجأت الشركة مؤخرًا إلى نصب خيام خاصة مؤقتة لاستيعاب الخوادم بشكل عاجل، ما يعكس الاستعجال الشديد في تجهيز البيئة التحتية لمواكبة ما تخطط له الشركة من خدمات متقدمة.
مصر تضع بصمتها في الذكاء الاصطناعي العالمي
قصة شركة "بلاي إيه آي" ليست مجرد نجاح تقني أو مالي، بل تمثل مؤشرًا قويًا على تنامي حضور الكفاءات المصرية والعربية في أكبر ساحات الابتكار العالمي. فأن تنطلق شركة من مهندس مصري تلقى تعليمه في جامعة محلية وتصل إلى طاولة التفاوض مع "ميتا"، فهذا تطور لافت يستحق التوقف عنده، ويعكس تحولًا في النظرة الدولية للطاقات القادمة من المنطقة العربية.
كما يمنح هذا الإنجاز دفعة قوية لمنظومة الشركات الناشئة في الشرق الأوسط، ويعزز الثقة في أن الفرصة لا ترتبط بالموقع الجغرافي، بل بالرؤية، والجودة، والقدرة على الابتكار في مجالات دقيقة كالذكاء الاصطناعي الصوتي.
خاتمة
استحواذ "ميتا" على "بلاي إيه آي" لا يُمثل فقط صفقة تقنية في سباق الشركات العملاقة، بل يحمل في طياته دلالات أعمق: أن عصر الذكاء الاصطناعي لم يعد حكرًا على وادي السيليكون فقط، بل أصبح مجالًا مفتوحًا للمبدعين من كل أنحاء العالم، ممن يملكون القدرة على تحويل التحديات إلى فرص. وبينما تبني "ميتا" مركز بياناتها في الخيام، تبني الكفاءات العربية مستقبلًا جديدًا في قلب المعادلة التكنولوجية العالمية.